غسيل العقول
كفاية !
نشأت في ”بريطانيا“ حركة مناهضة للاستهلاك تسمى ”كفاية“، يؤمن أشياعها أن المجتمع يبالغ في الاستهلاك وأن هذه الثقافة الاستهلاكية مسؤولة جزئيًا عن كثير من الأمراض الاجتماعية التي تفشت كالوباء في عالمنا، بدايةً من الفقر مرورًا بتدمير البيئة ووصولاً إلى الاغتراب النفسي. وقد عمدت هذه الحركة إلى حث المواطنين على طرح هذه الأسئلة على أنفسهم:
”متى نصل إلى حد الكفاية؟“ ”كيف نعيش حياة بلا استهلاك وبأقل الموارد؟“ ”كيف نقلل اعتمادنا على الاستهلاك والإنفاق المفرطين لنرضى عن أنفسنا ونشعر بالسعادة؟“
مهما تنوعت وظائفنا واختلفت طبقاتنا الاجتماعية، فكلنا مستهلكون. ورغم أنني خبير تسويق، أعترف أنني لا أقل استهلاكًا عن أي أحد. وبصفتي شخصًا أمضى أكثر من 20 سنة في الخطوط الأمامية لحروب الماركات والمنتجات، فقد قضيت ساعات لا حصر لها خلف الأبواب المغلقة مع المديرين التنفيذيين وخبراء التسويق في أكبر وأهم الشركات في العالم، وهناك رأيت – وانزعجت كثيرًا من – كل الحيل النفسية المتنوعة التي تدبرها هذه الشركات ومسوقوها ودعايتها الماكرة التي تتغذى على مخاوفنا
وأحلامنا ورغباتنا الدفينة لإقناعنا بشراء منتجاتها.
في عام 1957 ، كتب صحفي يدعى ”فانس باكارد“ كتابًا يحمل عنوان ”المُقْنِعون المُقَنَّعون“، كشف فيه النقاب عن جميع الألاعيب والحيل النفسية التي تستخدمها الشركات للتلاعب بعقول الناس وإقناعهم بالشراء تحت تأثير أشبه بتأثير التنويم المغناطيسي. كان الكتاب صفعة وصدمة ومفاجأة! فقد أثار الجدل وهز الأرض تحت أعتى الشركات وأكثرها تجذرًا بمنتجاتها في عقولنا.
ولكن هذه الحيل لم تعد شيئًا مقارنةً بما يحدث اليوم في عالم التسويق والدعاية والإعلان.
مفطورون على الشراء
كانت الأبحاث العلمية في الماضي تثبت أن الجنين في رحم أمه يستطيع سماع صوتها بوضوح، ثم ظهرت أبحاث أحدث تؤكد أنه قادر أيضًا على سماع أصوات أبعد تأتي من خارج جسم الأم. فقد كان من المعتقد أن الأصوات التي تصدر من داخل جسم الأم نفسه (كصوت دقات القلب، أو تدفق السائل الأمنيوسي) تغطي على جميع الأصوات الأخرى الخارجية، كالموسيقى مثلاً، إلا أن الحقيقة هي أن الجنين لا يستطيع سماع صوت الموسيقى وحسب، وإنما تترك هذه الموسيقى أيضًا انطباعًا قويًا وأثرًا دائمًا يمكن أن يشكِّل ذوقه الفني بعد أن يكبر. فللموسيقى دور كبير في تشكيل الذكريات الجنينية، وعندما تستمع الأم إلى الموسيقى، يتعرف الجنين على نوع هذه الموسيقى ويصبح المفضل لديه مقارنةً بأي نوع آخر. الأكثر من هذا أن نفس الذوق الموسيقي لأمه يترسخ لديه بشكل تلقائي، بما أنه يشاركها في كل هرموناتها. من منا لن يشعر بالدفء والسعادة عندما يعلم أن السبب الذي يجعله يحب نوعًا معينًا من الموسيقى هو استماع أمه إليه خلال شهور حملها؟! ولكن عندما تفكر في الألحان والأصوات المرتبطة بإعلانات المنتجات والماركات التجارية، ستجدها تحمل شيئًا من الشر والضرر، فهناك دراسات تؤكد أن سماع الجنين لهذه الألحان والأصوات يجعله ينجذب إليها (وما ترتبط به من منتجات) في المستقبل.
الخوف يبيع !
الخوف شعور معقد ومشوِّق وليس مكروهًا كليةً. فبعكس ما هو مُعتقَد، ثمة أساس بيولوجي واقعي وراء انجذابنا للخوف والإثارة. فالخوف يرفع معدل إفراز الأدرينالين، مؤديًا إلى رد فعل فطري وبدائي للكر أو الفر، وهذا بدوره يؤدي إلى إفراز هرمون الأبِينيفرِين، وهو هرمون وناقل عصبي ينتج – بحسب شهادة محبي الإثارة والأكشن – شعورًا بالغًا بالرضا. تتداخل منطقتان من المخ تقومان بمعالجة شعوري الخوف والمتعة: فاللوزة المخية ( – (amygdale مركز الخوف في المخ – تنشط بسبب الخوف تمامًا كما يحدث لها في العالم الواقعي، ولكن بما أن القشرة المخية تعلم أنك لست معرضًا للخطر فعلاً، يتحول هذا الفيض الشعوري إلى إحساس بالرضا لا الخوف.
لهذا يُعَد الخوف وسيلة إقناع قوية، وخبراء التسويق والدعاية يعرفون هذا ويستغلونه لمصلحتهم. عام 1994 عرض إعلان تليفزيوني امرأة تمسك في إحدى يديها فرشاة للأسنان، وفي اليد الأخرى ثمرة طماطم ناضجة. تقول المرأة في الإعلان: ”بثمرة الطماطم هذه سأثبت لكم وجهة نظر مهمة حيال فرشاة أسنانكم“. ثم تغرس شعر الفرشاة بقوة في الطماطم، محدثة جرحًا فيها شبيهًا بما يمكن أن يحدث للثة الأسنان النازفة. بعد ذلك تواصل كلامها: فقط فرشاة »أكوا فريش « المرنة تتميز بانحناءة فريدة تجعلها تنثني إذا ضغطت عليها بقوة. وهكذا يمكنك أن تتوقف عن إيذاء لثتك دون أن تتوقف عن غسيل أسنانك“. في ظاهر الأمر، اعتمد الإعلان على أداة مسرحية بسيطة ليبين مدى تميز الفرشاة، ولكن في الحقيقة كانت هناك حيلة نفسية متقنة تُمارس على
المستهلكين. فاستخدام هذه الأداة المسرحية الشبيهة باللثة النازفة تستدعي إلى العقل شيئًا واحدًا: زيارة إلى طبيب الأسنان. ماذا غير هذا يمكن أن يثير الفزع فينا؟
إدمان الشراء
لا يختلف إدمان الشراء عن أي نوع آخر من الإدمان، فالأمر يبدأ بترقب عملية التسوق أو الشراء، تستتبعه تجربة التسوق أو الشراء نفسها، والتي توصف عادةً بأنها ممتعة وتخلق شعورًا بالراحة والتحرر من المشاعر السلبية. ولكن هذه الراحة سرعان ما
تذوي، وفي النهاية – كأي مدمن – يغمر المتسوق شعور بالندم وتأنيب الضمير.
هل تساهم الشركات وفرق الدعاية والإعلان في خلق الإدمان تجاه منتجاتهم؟ في الواقع، رغم أنهم قد لا يكونون قادرين بشكل مباشر على ”تصنيع“ الإدمان، فإنهم يملكون آلاف الأدوات والحيل الماكرة لدفعنا في هذا الاتجاه. أحيانًا يستخدمون الإشارات النفسية أو الوجدانية اللاواعية، مثلما تفعل شركات السجائر حين تستخدم في إعلاناتها صورًا مجازية تستدعي الرغبة في التدخين. وفي أحيان أخرى، تجعلك الشركات تدمن منتجاتها بشكل متعمد ومقصود! لا يتطلب الأمر خبير تسويق لتعرف أن الأطعمة المشبعة بالدهون هي أحد أكثر المنتجات المشجِّعة على الإدمان (بعد الكحوليات والسجائر). ولكن ما لم تعرفه بعد أن هذا ليس من قبيل مصادفة بحتة استغلتها الشركات التي تبيع هذه الأطعمة، بل على العكس، فالسبب الذي يجعلنا ندمن هذه الأطعمة هو أن الشركات تتعمد أن تقحم في وصفاتها مواد إدمانية مثل: مكسبات الطعم والرائحة، والكافيين، وشراب الذرة، والسكر.
حسب الدراسات، تؤثر الأطعمة عالية الدهون والسعرات على المخ تأثيرًا مشابهًا لتأثير الهيروين والكوكايين. فعندما قام باحثان بإطعام فئران التجارب أطعمة مشبعة بالدهون (مثل: الكعك المحشو بالجبن، وألواح الحلوى)، اكتشفا أن كلاً منها ينشِّط إفراز مادة
الدوبامين، تمامًا مثلما تفعل المخدرات. الأخطر من هذا أنه بمرور الوقت أصبحت الفئران تريد كميات أكبر فأكبر لكي تحصل على نفس القدر من الدوبامين، تمامًا مثلما يحتاج مدمنو المخدرات إلى جرعات أكبر فأكبر من المواد المخدرة ليحصلوا على نفس القدر
من النشوة، فاستخلص الباحثان أنه عندما حصلت الفئران على هذه الأطعمة وبكميات كبيرة، أدى ذلك إلى تغيير إجباري في عادات أكلها كان مشابهًا لإدمان المخدرات. أما أكثر ما يثير الدهشة والرعب في هذه الدراسة، فهو عندما قارن الباحثان بين عقول الفئران التي أدمنت الأطعمة السريعة المشبعة بالدهون وبين عقول الفئران التي أدمنت الهيروين والكوكايين، فاكتشفا أن تأثير إدمان الأطعمة الدهنية يستمر لمدة أطول بحوالي 7 مرات.
قوة الرغبات الملحة
الرغبة الملحة والتوق الشديد إلى شيء ما. حالة ترفض المصانع والشركات الاعتراف بسعيها إليها، ومع هذا فإن أنجح الماركات والمنتجات لن تكون شيئًا دونها.
كل منا تنتابه رغبة ملحة من وقت إلى آخر، سواء كانت الرغبة في وجبة سريعة بعد يوم عمل طويل وشاق، أو قطعة شيكولاتة في طريق عودتنا إلى البيت من صالة الألعاب الرياضية، أو كوب قهوة في الصباح الباكر. ولكن على الرغم من أن هذه الرغبات تبدو وكأنها تنشأ فجأة ودون قصد منا، فإنها تنشأ في الواقع تحت تأثير إشارات جسدية ونفسية معينة في البيئة المحيطة بنا، سواء أدركنا ذلك أم لا.
الحقيقة أننا مهما توهمنا أن زمام الأمور في أيدينا، فإنه عندما يتعلق الأمر بالرغبات الملحة تخور قوانا أمامها، والشركات تعرف هذا، وتستغله عن عمد لمصلحتها، وتستخدم في إعلاناتها ومنتجاتها إشارات ”لاواعية“ في اللحظات التي توشك فيها الرغبات
الملحة على فرض سيطرتها.
في شركة ”كوكا كولا“ مثلاً، يقضي مديرو التسويق ساعات في مناقشة عدد الفقاعات التي يجب أن تظهر في إعلاناتهم المطبوعة وعلى ثلاجات العرض بالمتاجر. فبما أنهم يدركون مدى الرغبة الملحة التي تولدها فينا الفقاعات الغازية لري عطشنا، يدفعوننا إلى التفكير في هذا الشعور المنعش الذي تحدثه المياه الغازية بفقاعاتها الباردة التي تدغدغ حلوقنا، لدرجة أن بعضهم استطاع التوصل إلى عدد الفقاعات اللازم لإثارة الشعور بالعطش والرغبة الملحة في ري هذا العطش.
تأثير الأقران
نحن كمستهلكين مُسيَّرون بوعي جمعي يجعلنا ننظر إلى ما يفعله المحيطون بنا ومن ثم نبدأ في تعديل أفعالنا وسلوكياتنا طبقًا لهم. عندما يتعلق الأمر بما نشتريه، فآراء الآخرين مهمة بشكل حاسم، حتى لو كانوا غرباء عنا. كشف أحد استطلاعات الرأي مؤخرًا أن 61 ٪ من عينة الاستطلاع أجابوا بأنهم استعانوا بآراء المستهلكين الآخرين على شبكة الإنترنت قبل شراء منتجات أو خدمات جديدة. كما كشفت دراسة أخرى أن حوالي 50 ٪ من المستهلكين الأمريكيين الذين يتسوقون إلكترونيًا أربع مرات أو
أكثر في العام الواحد وينفقون ما لا يقل عن 500 دولار يقولون إنهم يحتاجون ما بين أربعة إلى سبعة تقييمات من العملاء الآخرين قبل اتخاذ قرار الشراء. فآراء الآخرين تكون مقنعة ومؤثرة للغاية لدرجة أننا على الرغم من معرفتنا بأن 25 ٪ من التقييمات يكتبها موظفو الشركة والمسوقون، فإننا نتجاهل هذه الحقيقة عن عمد. نحن مفطورون على التصديق، لأن ”التصديق الجمعي“ يربطنا بالآخرين.